17 يناير, 2014
دولة «رابعة» ومحافظة «النهضة» وثكنة «كرداسة».. تفاصيل لم يعرفها أحد،
ومشاهدات تُروى لأول مرة، وحكايات تقشعرّ لها الأبدان من فرط قسوتها
ولاآدميتها.. عاشتها الكاتبة الصحفية الشابة زكية هداية، وحكتها بأدق
التفاصيل بعد أن استطاعت اختراق هذه الأماكن الثلاثة وعايشت تفاصيل حياة
الإخوان بداخلها على مدار 40 يوماً كاملة. تروى فى كتابها كيف عاشت 4 ساعات
من الرعب بعد أن خطفها الإخوان داخل إحدى خيام التعذيب التى تمتلئ
بـ«الكرابيج والصواعق الكهربية وآثار الدماء فى كل مكان تمهيداً لقتلها
لأنها صحفية غير إخوانية»
ونكشف هنا من خلال الكتاب الكاشف «رابعة – النهضة – كرداسة.. حكايات تُروى لأول مرة»، قبل طرحه فى الأسواق قريباً والكتاب يتضمن شهادات حية، للمعتصمين، وكيف كانت تُدار «دولة رابعة»، وأسرار قيادات الجماعة داخل اعتصام رابعة، ومن أين كان يأتى التمويل، وماذا عن شقق الخلوة الشرعية، وأين كانت، تقع وما شكل تأثيثها من الداخل.. وغرف التعذيب فى النهضة ورابعة لكى تكون الجثة شاهداً لكل من تسول له نفسه أن يطلب الرحيل.. بينما تأتى لحظة اقتحام قسم كرداسة من أكثر المشاهد دموية فى تفاصيل الكتاب. الوقت ليلاً، وصفوت حجازى ومحمد البلتاجى اعتادا إلقاء الخطابات الليلية لكى تشعل حماس المعتصمين ضد الفريق أول عبدالفتاح السيسى، وزير الدفاع، والجيش، وثورة 30 يونيو، والدعوة للتظاهر لعودة الرئيس المعزول محمد مرسى والقضاء على الانقلابيين، كان روتيناً يومياً يتكرر من «رئيس دولة رابعة» محمد البلتاجى، فقد كان هذا لقبه المتعارف عليه داخل ميدان رابعة العدوية. تركت الحاجة صفية -سيدة أمية تجاوزت العقد السادس من عمرها- قريتها بمحافظة المنوفية لـ«تنصر الإسلام والرئيس الشرعى للبلاد»، وهى سيدة ريفية ذات ملامح بسيطة ووجه أبيض، طويلة القامة، وجهها شاحب من الحزن، لا تتحدث كثيراً لمن حولها، إلا أنها لا تتوانى عن تقديم المساعدة لمن يريد، وهى بمثابة أم للثوار داخل ميدان رابعة، لا تعرف شيئاً عما يحدث حولها سوى أنها تركت زوجها وأهلها لـ«تناصر الحكم بالإسلام المتمثل فى «مرسى» داخل دولة رابعة». وهى بالفعل كانت دولة داخل الدولة بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، رئيسها الدكتور محمد البلتاجى القيادى بتنظيم الإخوان، ورئيس الحكومة صفوت حجازى الداعية المحب للتنظيم والذى لم ولن ينضم للإخوان، ووزير إعلامها أحمد المغير رجل خيرت الشاطر نائب مرشد التنظيم، ووزير الصحة عبدالرحمن عز أحد الشباب النشطاء داخل التنظيم، ووزير دفاعها عصام العريان رئيس الكتلة البرلمانية للإخوان بمجلس الشورى ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية للإخوان، أما وزير ماليتها فهو القطب الإخوانى يوسف ندا الذى لم يتوان عن دفع مليارات من أجل تمويل الاعتصام، بينما كان «الشاطر» وزير الإسكان داخلها بحكم امتلاكه شركات العقارات والمبانى داخل مدينة نصر والأماكن المحيطة بها. «محمد البلتاجى».. كان رجلاً شديد العصبية نصّب نفسه رئيساً لدولة رابعة بمبايعة المتظاهرين داخل الاعتصام!! وكان يوماً غريب الأطوار حينما صعد منصة رابعة وأعلن عن توليه مهام الرئاسة وطلب من كل المتظاهرين المؤيدين لمرسى أن يعتبروه رئيساً لهم فى خطاب غلب عليه كيل الاتهامات ضد المؤسسة العسكرية ووزير الدفاع، وكذلك الإعلام والقنوات التليفزيونية التى وصفها بقنوات الفتنة ونشر الأكاذيب. وظل الرجل يخطب من أعلى المنصة طوال ساعة كاملة يكيل الاتهامات ضد الكل ولا يستثنى أحداً إلا الإخوان ومرسى الذى يصفه بـ«يوسف هذا العصر» الذى ظلمه فرعون مصر فى إشارة للسيسى. وكان صعود البلتاجى لمنصة رابعة العدوية بمثابة الإعلان عن الحرب، حيث ما يلبث الرجل أن يبدأ فى خطابه حتى تنتاب المتظاهرين حالة من الغضب الشديد يفرغونه فى شحنات متواصلة من الهتاف ضد الجيش والشرطة والعلمانيين الذين لم يناصروا شرعية مرسى، فالبلتاجى كان أكثر قيادى داخل التنظيم يصعد لمنبر رابعة ويردد هتافات ويصرّح بأقوال كانت سبباً فى إلقاء القبض عليه وتوجيه تهم عديدة له؛ أولاها دعم الإرهاب فى سيناء، خصوصاً بعد تصريحاته بشأن عدم انتهاء العمليات الإرهابية هناك إلا بعد عودة «مرسى» للحكم، والتى كانت بمثابة سقطة تاريخية فى حياته وإعلان عن تمويل ودعم الإخوان الرسمى للإرهاب فى سيناء، وهذا ما أصاب محبى التنظيم بخيبة الأمل فى هذه الجماعة، وتيقنوا أن فكر العنف والدم والإرهاب لم ولن يتركها. وكنا لا نعرف من أين يأتى البلتاجى ويصعد للمنصة ويلقى هذه الخطب، فمكانه كان غير معلوم لأحد داخل الاعتصام، إلا أننى نجحت فى الوصول إليه بطريقة بوليسية ذات يوم خلال جولاتى باعتصام رابعة؛ حيث كان يجلس برفقة «صفوت حجازى» ليل نهار داخل إحدى الغرف الملحقة بمسجد رابعة، وهى غرفة واسعة بها أريكتان وسريران، وكان الرجل يجلس فى حالة من الشرود حاملاً مصحفه بين يديه يقرأ منه ويبكى كمداً دون صوت، تغلف الغرفة حالة من السكون الشديد، فصوت الإبرة يرنّ داخلها رغم وجود «البلتاجى وحجازى وأحمد المغير وعبدالرحمن عز» داخلها، وكأن البلتاجى كان يفكر فى إدارة شئون دولته التى وضعها على كاهله قيادات التنظيم ويريد توفير كل سبل الحياة للمعتصمين حتى تتزايد الأعداد ولا يتركوا الاعتصام. وظل مقيماً داخل الاعتصام لمدة 45 يوماً حتى جاء يوم الفض فلم يتركه إلا بعد الساعة الثالثة عصراً، حينما تأكد من انهيار إمبراطوريته أمامه، وكأن الله يريد أن يريه تحطم ملكه أمام عينيه، كالذى تحدى القدرة الإلهية بسفينة «تيتانك»، وغادر مسرعاً وهرب من داخل الاعتصام. أما أحمد المغير، رجل الشاطر، فكان وزير إعلام دولة رابعة، وكان قد تدرب جيداً على استخدام أجهزة الكمبيوتر وبرامج التواصل الاجتماعى (فيس بوك وتويتر) لبث رسائل معينة لمؤيدى التنظيم، بل كانت براعته فى تنظيم اللجان الإلكترونية على مواقع التواصل الإلكترونى للإخوان ضد اللجان الإلكترونية التى أنشأها أعضاء الحزب الوطنى سبباً لاختيار الشاطر له لكى يكون ذراعه اليمنى والمسئول عن أنشطة الدعاية للتنظيم على مواقع التواصل الاجتماعى، حيث تولى مسئوليتها بعد ثورة 25 يناير، ورغم أن مجال دراسته بعيد عن الإلكترونيات إلا أنه برع فى استخدامها لنشر فكر الإخوان، وعقد اجتماعات التنظيم الدولى عن طريقها، بل واستخدامها فى بث رسائل معينة لقيادات التنظيم الدولى للإخوان تعجز مباحث أمن الدولة، التى كانت موجودة أثناء حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك، عن تتبعها ومعرفة مكان وهوية مرسلها، ولم يظهر إلا بعد أحداث ثورة 30 يونيو وعزل «مرسى» عن الحكم. وشارك المغير فى اعتصام رابعة من أول يوم، وكان يترأس المركز الإعلامى ولا يخرج تصريح أو بيان عن الإخوان إلا بتصديق منه، وحرص أثناء وجوده بالميدان على تقصير شعره وحلق لحيته بالكامل، بل وارتدى جلباباً وعمة، وكان الشاب الوحيد المخول له زيارة القيادات داخل المكان الذى يمكثون فيه باعتصام رابعة، حيث كان كثيراً ما يجلس مع «البلتاجى» رئيس دولة رابعة. ونظم المغير عدداً من الحملات الدعائية للتنظيم على «فيس بوك وتويتر» أشهرها حملة «اخطف ذهنهم» التى دشنها عدد من نشطاء الإخوان، والتى تعتمد على مهاتفة الشخص لمجموعة من المواطنين يتم اختيارهم بشكل عشوائى، وتوضيح سبب غلاء الأسعار، و الكلام عن الكهرباء التى ما زالت كما هى، وعن الأمن المفقود، وعن تقسيم الشعب، وحالة الاستقطاب الشديدة. وحذر الإخوان وقتها من استخدام الهاتف الأرضى لسهولة تتبُّعه، ونبهوا على أهمية مجاراة المتحدث حال السباب والشتم من قبَل المتصَل به، بل الحديث معه بكل أدب واحترام، وعدم ذكر كلمة الإخوان، فالقضية هى الشرعية وكرامة المصرى وحريته. وعن أسئلة جذب الانتباه، تم تحديدها بالقول إن المتصل، محمد مرسى، أو أبوالعلا ماضى، أو عصام سلطان، أو حازم صلاح أبوإسماعيل، أو الشهيد فلان الفلانى، من شهداء القرية، كنوع من شدّ الانتباه أو أنا الفريق السيسى، أو اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية، أو المستشار عدلى منصور الرئيس المؤقت، أو ضاحى خلفان رئيس شرطة دبى، ومحاورته كما لو كنتَ تلومه على الجرائم، كأن يقال: «يا راجل بقى أقتل أكتر من 6000 مصرى ولسه بتفوضنى، بقى أعتقل النساء والأطفال ولسه بتفوضنى، بقى أضيّع البلد واقتصادها واخربها ولسه بتفوضنى؟!». وعند مبادرته بالسؤال: «عاوز إيه؟»، يمكنك الرد عليه بكل لباقة وصوت هادئ، وبمنتهى الوقار: «أستأذن حضرتك فى 5 دقائق من وقتك»، فضلاً عن العديد من الحملات الإلكترونية التى تستهدف الشباب فى سن صغيرة وتحاول إقناعهم بفكر ورأى التنظيم. وخلال أحداث شارع النصر، التى حدثت بين الإخوان وقوات الجيش، نجح المغير فى استغلال سقوط ضحايا ومصابين وأصدر أمراً للجنة الإعلامية بـ«رابعة» بإثارة الرأى العام من خلال مجموعته التى كانت تتكون من 10 شباب تتراوح أعمارهم بين الـ20 والـ25، يجلسون دائماً داخل إحدى الغرف المغلقة وكأنهم فى ثكنة عسكرية ممنوع الاقتراب منها، ووفّر لهم التنظيم أجهزة الكمبيوتر والـ«لاب توب» لأداء مهامهم فى بث أخبار كاذبة أو تحمل نصف الحقيقة فقط مع المواطنين لكى تتم زعزعة الرأى العام وينجح التنظيم فى حصد التأييد الشعبى. كما أمر «المغير» وقتها بتصوير كل ضحايا الاشتباكات من قتلى ومصابين ورفع هذه الصور على كل صفحات مواقع التواصل الاجتماعى، بل وأخذ صور من أحداث الاشتباكات والحرب فى سوريا ورفعها على الصفحات الرئيسية التابعة للتنظيم، إلا أن الشباب اكتشفوا زيف هذه الصور وشنوا حملة إلكترونية تطالب بإلقاء القبض على المغير. وظل «المغير» داخل ميدان رابعة لمدة 40 يوماً لا يبرح مكانه، فلم يذهب لبيته أو يغادر الاعتصام كما كان يفعل البعض، إلا أنه هرب من الاعتصام مع بدء فضّه، ولم يعرف أحد مكانه بعد ذلك. تمويل الاعتصام فى دولة رابعة كان على أعلى مستوى. وعرفت من خلال معايشتى أن القطب الإخوانى الذى يعيش خارج مصر (يوسف ندا) هو الممول الرئيسى للاعتصام، بل ولاعتصام النهضة وأحداث كرداسة؛ فالرجل لم يتوانَ عن إغداق مليارات الجنيهات على الاعتصام لتوفير سبل المعيشة واحتياجات المعتصمين من مأكل ومشرب، بل وسكن، بتوفير عدد كبير من الخيام وبناء 40 حماماً داخل الاعتصام. «ندا».. لا يتحدث عنه أحد كثيراً، لكنه معروف فى وسائل الإعلام بـ«الرجل الغامض».. كما أنه ليس مجرد رجل أعمال مشهور أو رئيس لبنك التقوى الذى اتهمه رئيس الولايات المتحدة بدعم الإرهاب، لكنه لعب طوال الـ25 سنة الماضية دوراً مهماً فى الإخوان؛ فهو الذى رتب العلاقة بين الإخوان والثورة الإيرانية، وتوسط بين السعودية واليمن، والسعودية وإيران، وبذل مجهوداً غير عادى فى حل الأزمة بين الحكومة الجزائرية وجبهة الإنقاذ. وأكد عدد من القيادات الإخوانية، فى أحاديث جانبية داخل الاعتصام، أن الدكتور إبراهيم منير يتعاون مع يوسف ندا، وأنهما يديران التنظيم من الخارج بعد إلقاء القبض على جهاد الحداد الذى كان يتولى إدارة شئون التنظيم، فالقياديان يعيشان فى الخارج وكانا يمولان اعتصام رابعة، خصوصاً «ندا» الذى أنفق ٣٠ مليون جنيه من ماله الخاص لتمويل الاعتصام، وأشارت القيادات إلى أن إبراهيم منير يُعد مهندس العلاقات الخارجية للإخوان أثناء هذه الظروف، ويتولى عقد اللقاءات والتفاوض مع سفراء ووزراء الدول الخارجية ويدير التنظيم من الخارج، فهو من يعطى الأوامر بتنظيم المظاهرات وكيفية التعامل مع الدولة بكل الصور بعد خلع «مرسى». كانت المؤن والأطعمة تنهال كالسيل على الاعتصام، وتم إنشاء مطابخ تتولى إعداد الطعام للمعتصمين عن طريق الأخوات. ورغم أنى دخلت الاعتصام بطريقة مشروعة؛ حيث كنت أرتدى الحجاب وقلت لهم إننى أعمل بإحدى الصحف الإقليمية، حتى لا ينكشف أمرى، إلا أنه انكشف فجأة وتعرضت لاختطاف لمدة 4 ساعات بعد أن شك أحد قيادات الإخوان فى شخصى، وأننى ألتقط الصور وأُجرى أحاديث مع المعتصمين، ووقتها فقط أدركت أن مصيرى مجهول، بعد أن عُهد بى لأحدهم لكى يتم تسليمى لإحدى الغرف الحديدية للتعذيب (تقع خلف جامع رابعة العدوية)، أو إحدى الخيام فى مقر الاعتصام والتى بها تعذيب أيضاً، حيث كانوا يتشاورون عن الأسلوب الأفضل للتعذيب! لكى أنال نصيبى من «السلخ» عقاباً لى. وفوجئت بثلاثة رجال أقوياء يقتادوننى داخل إحدى الخيام ويسألوننى عن الجهة التى أنتمى لها، لكن إجابتى لم تكن مقنعة بالنسبة لهم، فتم احتجازى داخل إحدى الخيام المخصصة للتعذيب بشكل مؤقت، وعشت أسوأ 4 ساعات فى حياتى ما بين ترقب وانتظار تعذيبى فى أى لحظة، بعد أن اتهمونى بأنى كافرة وخارجة عن الملة ويجب قتلى أو تلقينى درس تعذيب يعيدنى لرشدى، كما قال أحد الخاطفين لى، والذى لم يتوانَ عن إهانتى واتهامى بالكفر، وعندها رأيت الوجه الحقيقى للإخوان، وعرفت مَن الذى يستخدم العنف والقتل! الرجال الثلاثة المسئولون عن التعذيب لم يتجاوز الأول منهم العقد الثالث من عمره، يرتدى جلباباً أبيض قصيراً وعمة ملفوفة بإحكام حول رأسه، وله لحية كثيفة غطت ملامح وجهه الذى كنت أراه بمثابة طفل برىء أغضبه شريكه أثناء اللعب ويريد أخذ ثأره، وكنت أنا لسوء الحظ من أخذ لعبته!! ويريد الانتقام منه، يملك بنياناً قوياً ومفتول العضلات كمن نسميهم «بودى جارد»، طويل القامة عريض المنكبين، أما الثانى فكان متوسط القامة يرتدى قميصاً وبنطلوناً، نجح فى ثنى رجليه حتى يقتدى بالسنة النبوية الشريفة التى تقتضى تقصير الملابس، وهو ذو لحية خفيفة محددة يرتدى نظارة يُخفى خلفها قلقه وخوفه مما سيفعل، ويردد على أصدقائه كلمات لم يغيّرها طوال ٤ ساعات: «أطلقوا سراح الفتاة فهى لم تفعل شيئاً وجاءت لتمارس عملها، ويبدو أنها متدينة وبنت ناس»، وقعت هذه الكلمات على مسامعى قوية، فبعد أن تأكدت أن اليوم لن يمر على خير جاءت كلمات هذا الرجل كبصيص من الأمل أمامى. والثالث كان ضعيف البنية، تبدو عليه آثار تعب وسهر متواصل لعدة أيام، وكان هزيل الجسد، شاحب الوجه، عيناه حمراوان من كثرة السهر، وتنتابه حالة من الغضب الشديد، يرمقنى بنظرة كره تقتلنى، وأشعر حينها أن موتى أوشك، حينما يضغط على أسنانه كأسد وجد فريسة يريد الانقضاض عليها، إلا أن كلمات صديقه الثانى كانت تُسكته وتمنعه من قتلى، لم أرَ فى حياتى نظرة كره متحجرة فى عين شخص كما رأيت فى عين هذا الرجل! فلقد صنع منه نظام حكم الإخوان وحشاً كاسراً يعتبر كل المخالفين له فى الرأى كفرة فجرة يجب قتلهم ما لم يهتدوا، وظللت داخل الخيمة أترقّب الدقائق والثوانى التى تمر وكأنها الدهر كاملاً. بدأت أستعيد شريط حياتى وأتوجه إلى الله بالدعاء، فرغم كل ما يحاصرنى داخل الخيمة من كرابيج عليها آثار دماء وعصى كهربائية وكلابشات وسكاكين فإننى لم أخف منهم، فللحظة قلت لنفسى: إذا قتلونى فأنا شهيدة لأنى كنت أؤدى عملى ولم أعتدِ على أحد، وسألقى تكريماً لا بأس به من قبَل الدولة، لكن ما كان يقلقنى إن قتلونى هو حزن أمى، فلم أستطع تخيل عينيها ووجهها حينما تعلم خبر وفاتى. وجاء صوت تليفونى ليقطع هذا الصمت المرير الذى عشته فى حيرة وترقب وانتظار أليم لما سيحدث لى، إلا أن الرياح أتت لأول مرة بما تشتهيه السفن، فإذا به قيادى من الجبهة السلفية يتصل للاطمئنان علىّ ويطلب إعطائى تصريحاً صحفياً. كان هذا الاتصال بمثابة طوق النجاة لى وإنهاء لحالة الصراع التى تدور فى خلدى، حيث رد عليه الإخوانى الأول وسجّانى الذى يريد قتلى، ودهش حينما قرأ اسمه على شاشة التليفون ودار بينهما حوار لمدة ١٠ دقائق ما سمعته منه أن الشيخ السلفى قال: «زكية صحفية ماهرة ومتدينة بل محجبة وبنت ناس ولا يصح أن تعترضوا طريقها»، وبعد انتهاء الاتصال تهللت أسارير السجّان الغاضب واعتذر لى وأعطانى صلاحية الدخول والتجول داخل الاعتصام شرط ألا أحكى لأحد عما حدث معى، ولم أشأ تضييع الفرصة ولم أحكِ عما حدث معى إلا لصديقين مقرّبين لى. وصمتُّ حتى أستطيع مواصلة عملى داخل الاعتصام.
الوطن
ونكشف هنا من خلال الكتاب الكاشف «رابعة – النهضة – كرداسة.. حكايات تُروى لأول مرة»، قبل طرحه فى الأسواق قريباً والكتاب يتضمن شهادات حية، للمعتصمين، وكيف كانت تُدار «دولة رابعة»، وأسرار قيادات الجماعة داخل اعتصام رابعة، ومن أين كان يأتى التمويل، وماذا عن شقق الخلوة الشرعية، وأين كانت، تقع وما شكل تأثيثها من الداخل.. وغرف التعذيب فى النهضة ورابعة لكى تكون الجثة شاهداً لكل من تسول له نفسه أن يطلب الرحيل.. بينما تأتى لحظة اقتحام قسم كرداسة من أكثر المشاهد دموية فى تفاصيل الكتاب. الوقت ليلاً، وصفوت حجازى ومحمد البلتاجى اعتادا إلقاء الخطابات الليلية لكى تشعل حماس المعتصمين ضد الفريق أول عبدالفتاح السيسى، وزير الدفاع، والجيش، وثورة 30 يونيو، والدعوة للتظاهر لعودة الرئيس المعزول محمد مرسى والقضاء على الانقلابيين، كان روتيناً يومياً يتكرر من «رئيس دولة رابعة» محمد البلتاجى، فقد كان هذا لقبه المتعارف عليه داخل ميدان رابعة العدوية. تركت الحاجة صفية -سيدة أمية تجاوزت العقد السادس من عمرها- قريتها بمحافظة المنوفية لـ«تنصر الإسلام والرئيس الشرعى للبلاد»، وهى سيدة ريفية ذات ملامح بسيطة ووجه أبيض، طويلة القامة، وجهها شاحب من الحزن، لا تتحدث كثيراً لمن حولها، إلا أنها لا تتوانى عن تقديم المساعدة لمن يريد، وهى بمثابة أم للثوار داخل ميدان رابعة، لا تعرف شيئاً عما يحدث حولها سوى أنها تركت زوجها وأهلها لـ«تناصر الحكم بالإسلام المتمثل فى «مرسى» داخل دولة رابعة». وهى بالفعل كانت دولة داخل الدولة بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، رئيسها الدكتور محمد البلتاجى القيادى بتنظيم الإخوان، ورئيس الحكومة صفوت حجازى الداعية المحب للتنظيم والذى لم ولن ينضم للإخوان، ووزير إعلامها أحمد المغير رجل خيرت الشاطر نائب مرشد التنظيم، ووزير الصحة عبدالرحمن عز أحد الشباب النشطاء داخل التنظيم، ووزير دفاعها عصام العريان رئيس الكتلة البرلمانية للإخوان بمجلس الشورى ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية للإخوان، أما وزير ماليتها فهو القطب الإخوانى يوسف ندا الذى لم يتوان عن دفع مليارات من أجل تمويل الاعتصام، بينما كان «الشاطر» وزير الإسكان داخلها بحكم امتلاكه شركات العقارات والمبانى داخل مدينة نصر والأماكن المحيطة بها. «محمد البلتاجى».. كان رجلاً شديد العصبية نصّب نفسه رئيساً لدولة رابعة بمبايعة المتظاهرين داخل الاعتصام!! وكان يوماً غريب الأطوار حينما صعد منصة رابعة وأعلن عن توليه مهام الرئاسة وطلب من كل المتظاهرين المؤيدين لمرسى أن يعتبروه رئيساً لهم فى خطاب غلب عليه كيل الاتهامات ضد المؤسسة العسكرية ووزير الدفاع، وكذلك الإعلام والقنوات التليفزيونية التى وصفها بقنوات الفتنة ونشر الأكاذيب. وظل الرجل يخطب من أعلى المنصة طوال ساعة كاملة يكيل الاتهامات ضد الكل ولا يستثنى أحداً إلا الإخوان ومرسى الذى يصفه بـ«يوسف هذا العصر» الذى ظلمه فرعون مصر فى إشارة للسيسى. وكان صعود البلتاجى لمنصة رابعة العدوية بمثابة الإعلان عن الحرب، حيث ما يلبث الرجل أن يبدأ فى خطابه حتى تنتاب المتظاهرين حالة من الغضب الشديد يفرغونه فى شحنات متواصلة من الهتاف ضد الجيش والشرطة والعلمانيين الذين لم يناصروا شرعية مرسى، فالبلتاجى كان أكثر قيادى داخل التنظيم يصعد لمنبر رابعة ويردد هتافات ويصرّح بأقوال كانت سبباً فى إلقاء القبض عليه وتوجيه تهم عديدة له؛ أولاها دعم الإرهاب فى سيناء، خصوصاً بعد تصريحاته بشأن عدم انتهاء العمليات الإرهابية هناك إلا بعد عودة «مرسى» للحكم، والتى كانت بمثابة سقطة تاريخية فى حياته وإعلان عن تمويل ودعم الإخوان الرسمى للإرهاب فى سيناء، وهذا ما أصاب محبى التنظيم بخيبة الأمل فى هذه الجماعة، وتيقنوا أن فكر العنف والدم والإرهاب لم ولن يتركها. وكنا لا نعرف من أين يأتى البلتاجى ويصعد للمنصة ويلقى هذه الخطب، فمكانه كان غير معلوم لأحد داخل الاعتصام، إلا أننى نجحت فى الوصول إليه بطريقة بوليسية ذات يوم خلال جولاتى باعتصام رابعة؛ حيث كان يجلس برفقة «صفوت حجازى» ليل نهار داخل إحدى الغرف الملحقة بمسجد رابعة، وهى غرفة واسعة بها أريكتان وسريران، وكان الرجل يجلس فى حالة من الشرود حاملاً مصحفه بين يديه يقرأ منه ويبكى كمداً دون صوت، تغلف الغرفة حالة من السكون الشديد، فصوت الإبرة يرنّ داخلها رغم وجود «البلتاجى وحجازى وأحمد المغير وعبدالرحمن عز» داخلها، وكأن البلتاجى كان يفكر فى إدارة شئون دولته التى وضعها على كاهله قيادات التنظيم ويريد توفير كل سبل الحياة للمعتصمين حتى تتزايد الأعداد ولا يتركوا الاعتصام. وظل مقيماً داخل الاعتصام لمدة 45 يوماً حتى جاء يوم الفض فلم يتركه إلا بعد الساعة الثالثة عصراً، حينما تأكد من انهيار إمبراطوريته أمامه، وكأن الله يريد أن يريه تحطم ملكه أمام عينيه، كالذى تحدى القدرة الإلهية بسفينة «تيتانك»، وغادر مسرعاً وهرب من داخل الاعتصام. أما أحمد المغير، رجل الشاطر، فكان وزير إعلام دولة رابعة، وكان قد تدرب جيداً على استخدام أجهزة الكمبيوتر وبرامج التواصل الاجتماعى (فيس بوك وتويتر) لبث رسائل معينة لمؤيدى التنظيم، بل كانت براعته فى تنظيم اللجان الإلكترونية على مواقع التواصل الإلكترونى للإخوان ضد اللجان الإلكترونية التى أنشأها أعضاء الحزب الوطنى سبباً لاختيار الشاطر له لكى يكون ذراعه اليمنى والمسئول عن أنشطة الدعاية للتنظيم على مواقع التواصل الاجتماعى، حيث تولى مسئوليتها بعد ثورة 25 يناير، ورغم أن مجال دراسته بعيد عن الإلكترونيات إلا أنه برع فى استخدامها لنشر فكر الإخوان، وعقد اجتماعات التنظيم الدولى عن طريقها، بل واستخدامها فى بث رسائل معينة لقيادات التنظيم الدولى للإخوان تعجز مباحث أمن الدولة، التى كانت موجودة أثناء حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك، عن تتبعها ومعرفة مكان وهوية مرسلها، ولم يظهر إلا بعد أحداث ثورة 30 يونيو وعزل «مرسى» عن الحكم. وشارك المغير فى اعتصام رابعة من أول يوم، وكان يترأس المركز الإعلامى ولا يخرج تصريح أو بيان عن الإخوان إلا بتصديق منه، وحرص أثناء وجوده بالميدان على تقصير شعره وحلق لحيته بالكامل، بل وارتدى جلباباً وعمة، وكان الشاب الوحيد المخول له زيارة القيادات داخل المكان الذى يمكثون فيه باعتصام رابعة، حيث كان كثيراً ما يجلس مع «البلتاجى» رئيس دولة رابعة. ونظم المغير عدداً من الحملات الدعائية للتنظيم على «فيس بوك وتويتر» أشهرها حملة «اخطف ذهنهم» التى دشنها عدد من نشطاء الإخوان، والتى تعتمد على مهاتفة الشخص لمجموعة من المواطنين يتم اختيارهم بشكل عشوائى، وتوضيح سبب غلاء الأسعار، و الكلام عن الكهرباء التى ما زالت كما هى، وعن الأمن المفقود، وعن تقسيم الشعب، وحالة الاستقطاب الشديدة. وحذر الإخوان وقتها من استخدام الهاتف الأرضى لسهولة تتبُّعه، ونبهوا على أهمية مجاراة المتحدث حال السباب والشتم من قبَل المتصَل به، بل الحديث معه بكل أدب واحترام، وعدم ذكر كلمة الإخوان، فالقضية هى الشرعية وكرامة المصرى وحريته. وعن أسئلة جذب الانتباه، تم تحديدها بالقول إن المتصل، محمد مرسى، أو أبوالعلا ماضى، أو عصام سلطان، أو حازم صلاح أبوإسماعيل، أو الشهيد فلان الفلانى، من شهداء القرية، كنوع من شدّ الانتباه أو أنا الفريق السيسى، أو اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية، أو المستشار عدلى منصور الرئيس المؤقت، أو ضاحى خلفان رئيس شرطة دبى، ومحاورته كما لو كنتَ تلومه على الجرائم، كأن يقال: «يا راجل بقى أقتل أكتر من 6000 مصرى ولسه بتفوضنى، بقى أعتقل النساء والأطفال ولسه بتفوضنى، بقى أضيّع البلد واقتصادها واخربها ولسه بتفوضنى؟!». وعند مبادرته بالسؤال: «عاوز إيه؟»، يمكنك الرد عليه بكل لباقة وصوت هادئ، وبمنتهى الوقار: «أستأذن حضرتك فى 5 دقائق من وقتك»، فضلاً عن العديد من الحملات الإلكترونية التى تستهدف الشباب فى سن صغيرة وتحاول إقناعهم بفكر ورأى التنظيم. وخلال أحداث شارع النصر، التى حدثت بين الإخوان وقوات الجيش، نجح المغير فى استغلال سقوط ضحايا ومصابين وأصدر أمراً للجنة الإعلامية بـ«رابعة» بإثارة الرأى العام من خلال مجموعته التى كانت تتكون من 10 شباب تتراوح أعمارهم بين الـ20 والـ25، يجلسون دائماً داخل إحدى الغرف المغلقة وكأنهم فى ثكنة عسكرية ممنوع الاقتراب منها، ووفّر لهم التنظيم أجهزة الكمبيوتر والـ«لاب توب» لأداء مهامهم فى بث أخبار كاذبة أو تحمل نصف الحقيقة فقط مع المواطنين لكى تتم زعزعة الرأى العام وينجح التنظيم فى حصد التأييد الشعبى. كما أمر «المغير» وقتها بتصوير كل ضحايا الاشتباكات من قتلى ومصابين ورفع هذه الصور على كل صفحات مواقع التواصل الاجتماعى، بل وأخذ صور من أحداث الاشتباكات والحرب فى سوريا ورفعها على الصفحات الرئيسية التابعة للتنظيم، إلا أن الشباب اكتشفوا زيف هذه الصور وشنوا حملة إلكترونية تطالب بإلقاء القبض على المغير. وظل «المغير» داخل ميدان رابعة لمدة 40 يوماً لا يبرح مكانه، فلم يذهب لبيته أو يغادر الاعتصام كما كان يفعل البعض، إلا أنه هرب من الاعتصام مع بدء فضّه، ولم يعرف أحد مكانه بعد ذلك. تمويل الاعتصام فى دولة رابعة كان على أعلى مستوى. وعرفت من خلال معايشتى أن القطب الإخوانى الذى يعيش خارج مصر (يوسف ندا) هو الممول الرئيسى للاعتصام، بل ولاعتصام النهضة وأحداث كرداسة؛ فالرجل لم يتوانَ عن إغداق مليارات الجنيهات على الاعتصام لتوفير سبل المعيشة واحتياجات المعتصمين من مأكل ومشرب، بل وسكن، بتوفير عدد كبير من الخيام وبناء 40 حماماً داخل الاعتصام. «ندا».. لا يتحدث عنه أحد كثيراً، لكنه معروف فى وسائل الإعلام بـ«الرجل الغامض».. كما أنه ليس مجرد رجل أعمال مشهور أو رئيس لبنك التقوى الذى اتهمه رئيس الولايات المتحدة بدعم الإرهاب، لكنه لعب طوال الـ25 سنة الماضية دوراً مهماً فى الإخوان؛ فهو الذى رتب العلاقة بين الإخوان والثورة الإيرانية، وتوسط بين السعودية واليمن، والسعودية وإيران، وبذل مجهوداً غير عادى فى حل الأزمة بين الحكومة الجزائرية وجبهة الإنقاذ. وأكد عدد من القيادات الإخوانية، فى أحاديث جانبية داخل الاعتصام، أن الدكتور إبراهيم منير يتعاون مع يوسف ندا، وأنهما يديران التنظيم من الخارج بعد إلقاء القبض على جهاد الحداد الذى كان يتولى إدارة شئون التنظيم، فالقياديان يعيشان فى الخارج وكانا يمولان اعتصام رابعة، خصوصاً «ندا» الذى أنفق ٣٠ مليون جنيه من ماله الخاص لتمويل الاعتصام، وأشارت القيادات إلى أن إبراهيم منير يُعد مهندس العلاقات الخارجية للإخوان أثناء هذه الظروف، ويتولى عقد اللقاءات والتفاوض مع سفراء ووزراء الدول الخارجية ويدير التنظيم من الخارج، فهو من يعطى الأوامر بتنظيم المظاهرات وكيفية التعامل مع الدولة بكل الصور بعد خلع «مرسى». كانت المؤن والأطعمة تنهال كالسيل على الاعتصام، وتم إنشاء مطابخ تتولى إعداد الطعام للمعتصمين عن طريق الأخوات. ورغم أنى دخلت الاعتصام بطريقة مشروعة؛ حيث كنت أرتدى الحجاب وقلت لهم إننى أعمل بإحدى الصحف الإقليمية، حتى لا ينكشف أمرى، إلا أنه انكشف فجأة وتعرضت لاختطاف لمدة 4 ساعات بعد أن شك أحد قيادات الإخوان فى شخصى، وأننى ألتقط الصور وأُجرى أحاديث مع المعتصمين، ووقتها فقط أدركت أن مصيرى مجهول، بعد أن عُهد بى لأحدهم لكى يتم تسليمى لإحدى الغرف الحديدية للتعذيب (تقع خلف جامع رابعة العدوية)، أو إحدى الخيام فى مقر الاعتصام والتى بها تعذيب أيضاً، حيث كانوا يتشاورون عن الأسلوب الأفضل للتعذيب! لكى أنال نصيبى من «السلخ» عقاباً لى. وفوجئت بثلاثة رجال أقوياء يقتادوننى داخل إحدى الخيام ويسألوننى عن الجهة التى أنتمى لها، لكن إجابتى لم تكن مقنعة بالنسبة لهم، فتم احتجازى داخل إحدى الخيام المخصصة للتعذيب بشكل مؤقت، وعشت أسوأ 4 ساعات فى حياتى ما بين ترقب وانتظار تعذيبى فى أى لحظة، بعد أن اتهمونى بأنى كافرة وخارجة عن الملة ويجب قتلى أو تلقينى درس تعذيب يعيدنى لرشدى، كما قال أحد الخاطفين لى، والذى لم يتوانَ عن إهانتى واتهامى بالكفر، وعندها رأيت الوجه الحقيقى للإخوان، وعرفت مَن الذى يستخدم العنف والقتل! الرجال الثلاثة المسئولون عن التعذيب لم يتجاوز الأول منهم العقد الثالث من عمره، يرتدى جلباباً أبيض قصيراً وعمة ملفوفة بإحكام حول رأسه، وله لحية كثيفة غطت ملامح وجهه الذى كنت أراه بمثابة طفل برىء أغضبه شريكه أثناء اللعب ويريد أخذ ثأره، وكنت أنا لسوء الحظ من أخذ لعبته!! ويريد الانتقام منه، يملك بنياناً قوياً ومفتول العضلات كمن نسميهم «بودى جارد»، طويل القامة عريض المنكبين، أما الثانى فكان متوسط القامة يرتدى قميصاً وبنطلوناً، نجح فى ثنى رجليه حتى يقتدى بالسنة النبوية الشريفة التى تقتضى تقصير الملابس، وهو ذو لحية خفيفة محددة يرتدى نظارة يُخفى خلفها قلقه وخوفه مما سيفعل، ويردد على أصدقائه كلمات لم يغيّرها طوال ٤ ساعات: «أطلقوا سراح الفتاة فهى لم تفعل شيئاً وجاءت لتمارس عملها، ويبدو أنها متدينة وبنت ناس»، وقعت هذه الكلمات على مسامعى قوية، فبعد أن تأكدت أن اليوم لن يمر على خير جاءت كلمات هذا الرجل كبصيص من الأمل أمامى. والثالث كان ضعيف البنية، تبدو عليه آثار تعب وسهر متواصل لعدة أيام، وكان هزيل الجسد، شاحب الوجه، عيناه حمراوان من كثرة السهر، وتنتابه حالة من الغضب الشديد، يرمقنى بنظرة كره تقتلنى، وأشعر حينها أن موتى أوشك، حينما يضغط على أسنانه كأسد وجد فريسة يريد الانقضاض عليها، إلا أن كلمات صديقه الثانى كانت تُسكته وتمنعه من قتلى، لم أرَ فى حياتى نظرة كره متحجرة فى عين شخص كما رأيت فى عين هذا الرجل! فلقد صنع منه نظام حكم الإخوان وحشاً كاسراً يعتبر كل المخالفين له فى الرأى كفرة فجرة يجب قتلهم ما لم يهتدوا، وظللت داخل الخيمة أترقّب الدقائق والثوانى التى تمر وكأنها الدهر كاملاً. بدأت أستعيد شريط حياتى وأتوجه إلى الله بالدعاء، فرغم كل ما يحاصرنى داخل الخيمة من كرابيج عليها آثار دماء وعصى كهربائية وكلابشات وسكاكين فإننى لم أخف منهم، فللحظة قلت لنفسى: إذا قتلونى فأنا شهيدة لأنى كنت أؤدى عملى ولم أعتدِ على أحد، وسألقى تكريماً لا بأس به من قبَل الدولة، لكن ما كان يقلقنى إن قتلونى هو حزن أمى، فلم أستطع تخيل عينيها ووجهها حينما تعلم خبر وفاتى. وجاء صوت تليفونى ليقطع هذا الصمت المرير الذى عشته فى حيرة وترقب وانتظار أليم لما سيحدث لى، إلا أن الرياح أتت لأول مرة بما تشتهيه السفن، فإذا به قيادى من الجبهة السلفية يتصل للاطمئنان علىّ ويطلب إعطائى تصريحاً صحفياً. كان هذا الاتصال بمثابة طوق النجاة لى وإنهاء لحالة الصراع التى تدور فى خلدى، حيث رد عليه الإخوانى الأول وسجّانى الذى يريد قتلى، ودهش حينما قرأ اسمه على شاشة التليفون ودار بينهما حوار لمدة ١٠ دقائق ما سمعته منه أن الشيخ السلفى قال: «زكية صحفية ماهرة ومتدينة بل محجبة وبنت ناس ولا يصح أن تعترضوا طريقها»، وبعد انتهاء الاتصال تهللت أسارير السجّان الغاضب واعتذر لى وأعطانى صلاحية الدخول والتجول داخل الاعتصام شرط ألا أحكى لأحد عما حدث معى، ولم أشأ تضييع الفرصة ولم أحكِ عما حدث معى إلا لصديقين مقرّبين لى. وصمتُّ حتى أستطيع مواصلة عملى داخل الاعتصام.
الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق